Wednesday, November 5, 2008

التثاقف السياسي والفكري - العلاقة بين اللغة الفارسية والعربية

للأستاذ الدكتور أبي القاسم سعد الله
لقد أحسن المجمع اختيار موضوع هذه الدورة وهو (التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والأجنبية). فكل الدلائل تشير اليوم إلى ضرورة تدارس مثل هذا الموضوع القديم الجديد في آنٍ واحد.
إن التأثر والتأثير بين الثقافات أمر حتمي توجبه الشرائع والطبائع والعلاقات الإنسانية، وتشهد لـه الحضارات المتعاقبة الزاهرة منها والمندثرة على السواء. وقد كان ذلك موضوع بحث المتخصصين في مجالات المعرفة المختلفة. وكانت الثقافة الإسلامية قد أخذت من الثقافة الإغريقية دون شغل نفسها أيضًا بحجم تأثرها، وفي الوقت نفسه أخذ العرب المسلمون من ثقافات فارس والهند واليونان وغيرهم دون قيد من التأثر بالآخر كما نشعر اليوم. ومنذ عصر النهضة فعل الأوربيون ما فعل
غيرهم أيضًا فأخذوا من المسلمين الكثير من علومهم؛ لأن ذلك يصب في مصلحتهم، وربما دون الشعور بخطره، اللهم إلا بعض الأصداء التي تحسَّر أصحابها على تأثر شابهم بالمسلمين خوفًا على ضياع دينهم وهويتهم.
ومع تخلف الشرق وتفوق الغرب بدأت عقدة التأثر في الظهور. فقد أخذ الشرقيون (العرب المسلمون) يذكرون الغربيين بما لهم من أيادٍ بيضاء عليهم في تقدمهم العلمي والفكري، وما نقلوه إليهم من تراث اليونان، وما أثروا به عليهم أيام الحروب الصليبية وأيام حكمهم في الأندلس وصقلية. ومن جهة أخرى أخذ الغربيون يمنون على الشرقيين بأنهم إنما قلدوا اليونان (وهم غربيون) دون إضافة للثقافة الإنسانية وأنهم ليسوا مبتدعة وإنما هم متبعة،
وأن الغرب استقى العلوم والآداب القديمة (الكلاسيكية) مباشرة ودون واسطة من اليونان أنفسهم،ولم يحتاجوا إلى جسر من العرب والمسلمين للعبور إلى الثقافة الإغريقية.
وكلما ازداد الشرقيون ضعفًا ازداد الغربيون نكرانًا للجميل وتعنتًا وابتعادًا عن تأثرهم بالمسلمين. ومنذ عقود قليلة ادعى أوغسطين بيرك (والد المستشرق الشهير جاك بارك J.Berque) أن ابن خلدون قرأ أرسطو ولكنه لم يفهمه فقدمه في صورة مشوهة.
وقد كان عصر التسلط الاستعماري الذي عبر عن المرحلة الحرجة المهمة في الشعور بعقدة التأثير والتأثر، وهذا العصر هو القرن التاسع عشر الذي يعرف أيضًا بعصر التغلغل الأوربي في البلدان الإسلامية، وقد رافقه فرض المفاهيم والثقافة الغربية. فالمستعمرون قد نظروا إلى أنفسهم على أنهم أصحاب حضارة متفوقة تميزت بذكاء أهلها الخاص وقدرتهم الخارقة على السيطرة على الطبيعة وعلى الأشياء، ومن ثمة فإنهم هم المؤثرون وغيرهم هو المتأثر دائمًا. وحاولوا فرض نموذجهم الحضاري وقيمهم بأساليب عديدة، منها الإجباري والقسري، ومنها الإغوائي والإغرائي، وليس هنا محل ذكر الأساليب الاستعمارية في التعليم والسياسة والإدارة ونظم الجيش والضرائب، فكل شعب جرب الاستعمار يعرف تلك الأساليب عن ظهر قلب.
ويجب هنا ألا نكون متخوفين من الاستلاب أو يائسين من المقاومة، فالثقافة الأصيلة تؤثر في غيرها حتى وهي مغلوبة. وهناك شواهد على ذلك خلال التاريخ. فقد تأثر الرومان بثقافة الإغريق رغم أنهم كانوا هم الغالبين. وتأثر النورمان بثقافة المسلمين عندما تغلبوا على صقلية. وفي العصر الحديث نلاحظ تأثر الغربيين بثقافات المسلمين رغم تفوقهم الاستعماري. والمعروف أن المستوطنين الفرنسيين في الجزائر قد قلدوا كثيرًا من المعاملات والفنون وأنماط العيش واللسان، بل إن أدبهم قد تأثر بأدب الجزائر في روحه وطبيعته (وليس في لغته) حتى تحدث نقادهم عن "مدرسة الجزائر" الخاصة في الأدب الفرنسي وهي المدرسة التي كان من أبرز ممثليها (ألبير كامو). وبهذا الصدد نشير أيضًا إلى تأثر جيل من الجزائريين بالمدرسة الأدبية الفرنسية، وعلى رأس هذا الجيل (محمد ديب). وكلما كان شعب ما عصيًّا على الذوبان في غيره ومعتزًّا بثقافته كان أكثر تأثيرًا في غيره. وقد كنت أمزح مع بعض أصدقائي المصريين المتخوفين من تأثير ثقافة (الفاست فود) الأمريكية فأقول لهم مطمئنًّا لا تخافوا على مصر من الاستلاب ما دمتم تنتجون سندويتش "الفول والطعمية" !. والمعروف أن علماءنا يقولون إنه لا خوف على المسلمين ما داموا متمسكين بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وكتاب الله منزل بلسان عربي مبين.
ومع ذلك فلا نكران أن الثقافة الغربية المعاصرة قد أثرت فينا بدرجة كبيرة في مختلف المجالات. ونحن هنا لا نستثني البحث العلمي، ولا مناهج التربية والتعليم، ولا أساليب الحكم، ولا أنماط الآداب والفنون، ولا النطاق اللغوي والإعلامي، وإذا كنا الآن نشهد التأثير أوضح ما يكون في شبكة المعلومات (الإنترنت) والفضائيات ووسائل الاتصال الأخرى، فعلينا أن نتذكر عصر ظهور الصحافة والطباعة ووسائل النقل وثورة المواصلات ابتداء من القرن التاسع عشر. وقد أحدثت الحملة الفرنسية على مصر ثم الجزائر ثورة في العلاقات الثقافية، نتج عنها تغيير في نظم الحكم وفي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وفي المفاهيم الفكرية والثقافية، وكان من مظاهر ذلك ظهور الصحافة وتحديث الجيش ونشأة المدارس "العصرية" وزيارات الغرب للاطلاع على ما عنده عن كثب، والكتابة عنه باندهاش واستغراب، وإرسال البعثات إليه للتعلم والاستفادة منه، والترجمة من لغاته، وظهور كتب بيننا من نوع كتاب (المرآة) لحمدان خوجة، و(تخليص الإبريز) للطهطاوي، و(أقوم المسالك) لخير الدين باشا التونسي، و(صفوة الاعتبار) لمحمد بيرم الخامس. ومن آثار هذا الاتصال ظهور فئة تشكك في قدرة اللغة العربية على مسايرة العصر ومواكبة التطور، وتحث العرب على اليقظة والاجتهاد ونبذ الجمود.
ولا يمكننا في هذه الورقة الإحاطة بكل مظاهر التأثر الثقافي أو حتى التثاقف. وحسبنا الاكتفاء بعنصرين في مجال التثاقف، وهما التثاقف السياسي والتثاقف الفكري.
لقد كانت النظم السياسية والعسكرية أولى أوجه التثاقف عندنا، فقد كان حكام العرب والمسلمين تحت ضغط شديد لممارسة حياة جديدة في القرن التاسع عشر. فأنشأ محمد علي إدارة مختلفة عن إدارة المماليك، ورتب العساكر ترتيبًا لا عهد لمصر به، وجعل المستشارين والخبراء الغربيين يسهرون على إدارته ومدارسه وجيشه فترة طويلة من الوقت، وكان هؤلاء ينقلون بالطبع تجارب بلدانهم إلى مصر، وقد حصل الشيء نفسه تقريبًا في الدولة العثمانية على عهد محمود الثاني، إذ ألغى هذا الجيش القديم وأنشأ جيشًا جديدًا، وزوده بالأسلحة والتدريبات الحديثة (الأوربية)، واستغنى عن إدارات عتيقة، وأنشأ بدلها وزارات على الطريقة الأوربية، وسن قوانين لجمع الضرائب ومعاملة الأجانب لا عهد لمجتمعه المسلم بها؛ لأنها إجراءات قائمة على النموذج الغربي وتضمنها الخط الشريف لسنة 1839م، والخط الهومايوني لسنة 1856م. ولم يلبث إبراهيم باشا (مصر) وأحمد باي(تونس) وسفراء من إيران والمغرب، والدولة العثمانية والهند أن زاروا أوربا بأنفسهم وأعجبوا بتجربتها السياسية والتشريعية والعسكرية والتعليمية، ثم رجعوا وهم يخططون لتقليد الغرب فيما ينهض بالأمة في نظرهم ولا يخالف تعاليم الإسلام. ولم يكن ذلك التقليد عن قناعة فقط وإنما كان بضغط أيضًا.
كانت فرنسا وإيطاليا وراء إصدار عهد الأمان في تونس، وهو تجربة فريدة من نوعها في العصر الحديث (1856م)، وهي كما تذهب الدراسات التثاقفية أولى التجارب "الدستورية" في البلاد العربية. و(عهد الأمان) ما هو إلا وثيقة مكتوبة نظمت أحوال الرعية (والمقصود بها هم الرعايا الأوربيون) في تونس حيث التزم الباي بمعاملة رعاياه بناء على نصوص ملزمة في المحاكم والجبايات والأمن ونحو ذلك . ولم يكن عهد الأمان "دستورًا" بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنه أصبح تاريخيًّا دستورًا في نظر الحركة الوطنية التونسية بعد ذلك، إذ جعلته مرجعها السياسي في المطالبة بالاستقلال وأطلقته على الحزب المطالب به (الحزب الدستوري). ومن جهة أخرى كان الدستور العثماني(1876م) تجربة أخرى في التثاقف السياسي والتشريعي. فأمام الضغط الدولي وإعجاب بعض قادة الفكر العثمانيين بالتجارب الدستورية الأوربية وضع مدحت باشا صيغة الدستور العثماني، وجرت بناء عليه أول انتخابات نيابية، واجتمع المجلس (البرلمان) لأول مرة في أول عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ولكن هذا السلطان سرعان ما ألغى هذا الدستور عندما وجده مقيدًا لحريته الفردية. وحكمه المطلق، ومع ذلك فإن "الدستور" بقي مرجعًا للمنادين بالتطور والحرية السياسية وممارسة الحياة البرلمانية على الطريقة الغربية. وقد نجح أصحاب هذا التيار في إعادة العمل بالدستور سنة 1908م، ولكن جمعية الاتحاد والترقي التي جعلته من شعاراتها لم تحترمه أيضًا رغم إجراء الانتخابات واجتماع النواب وضمان الحريات ظاهريًّا. ولم يكن أمام هذه الجمعية إلا تجميد الدستور واللجوء إلى الاستبداد والقمع مما جعل بعض الأوربيين يدعون بأن العقل الشرقي لا يعرف إلا طريق الحكم الفردي. وقد عرفت الجزائر أثناء الحكم الاستعماري تجربة المجالس المحلية (البلدية والإقليمية) ثم المجلس النيابي ابتداء من مطلع القرن العشرين. ورغم شكلية هذه المجالس فإن التمثيل فيها كان أعرج، إذ كان الأوربيون فيها منتخبين بينما الجزائريون كانوا معينين، وكان الأولون، على قلتهم، أكثرية، وكان الأخيرون، على كثرتهم أقلية، ولم يعرف الجزائريون الانتخاب للمجلس العام (البرلمان) إلا بعد الحرب العالمية الثانية، ولاشك أن التجربة النيابية على الطريقة الأوربية، شكليًّا على الأقل، في بعض البلاد العربية مثل مصر وسورية وتونس، والعراق ولبنان كانت قد قطعت أشواطًا منذ الثلاثينيات من القرن العشرين.
وفي نطاق التثاقف السياسي والتشريعي أيضًا نشير إلى تجربة الأحزاب السياسية أو الحياة الحزبية. ويمكننا القول إن البلاد العربية لم تعرف الأحزاب طيلة القرن التاسع عشر، وما حدث في تلك الأثناء لا يعدو أن يكون اتجاهات أو تيارات غير مؤطرة ولا منظمة، مثل لجنة الحضر في الجزائر بعد الاحتلال، وحركة النخبة في تونس ومصر بعد الاحتلال أيضًا. أما منذ مفتتح القرن العشرين فقد ظهرت أحزاب وجمعيات عربية سرية أو علنية مثل حزب اللامركزية والحزب الوطني المصري، ولكن الساحة شهدت تطورًا في ظهور الأحزاب السياسية الجماهيرية عندما ظهر حزب الدستور في تونس بقيادة عبد العزيز الثعالبي وحزب الوفد في مصر بقيادة سعد زغلول، ثم توالت الأحزاب، ففي الجزائر ظهر حزب الأمير خالد الذي تحول إلى نجم شمال أفريقيا، والأحزاب الوطنية في سورية ولبنان والمغرب والعراق، وأحزاب جديدة في مصر والجزائر. وكان بعض هذه الأحزاب يتخذ من الأحزاب الأوربية نموذجه، وأنا أعني هنا الأحزاب المغاربية على الخصوص. ومن جهة أخرى كانت السلطات الاستعمارية في المشرق وفي المغرب تكيف الحياة الحزبية والنيابية على النسق السائد في بلادها، فبريطانيا كانت تشكل "البرلمانات" والأحزاب العربية على نموذجها في المحميات والبلدان المنتدبة عليها، بينما كانت فرنسا تفعل الشيء نفسه مع أحزاب وبرلمانات مستعمراتها. وهكذا كانت عملية التثاقف السياسي والبرلماني والحزبي في البلاد العربية تسير في أغلب الأحيان تحت تأثير الدولة المستعمرة.
وأمامنا اليوم مشهد آخر من هذا التثاقف. فأوربا لم تعد تتحكم مباشرة في البلاد العربية كما كانت في عهد الاستعمار، وإنما تتحكم بطرق جديدة كالضغط الاقتصادي والمالي والعقوبات والحصار. وقد رفع الأوربيون شعارات جديدة تتمثل في فرض احترام الديمقراطية والحريات السياسية والمدنية وحقوق الإنسان، وأخيرًا طرحوا أمامنا شعار العولمة. وإذا كانت التجارب السياسية والحزبية والبرلمانية متصلة بأوربا الاستعمارية في أغلب الأحيان فإن الشعارات الأخيرة كالديمقراطية، والحريات وحقوق الإنسان والعولمة، متصلة بأمريكا اتصالاً قويًّا. والمعروف أن أمريكا هي وارثة التجارب الأوربية مجتمعة. وبذلك يكون حديثنا عن التثاقف السياسي مع الغرب ليس منفصلاً عن بعضه، وسواء أحبت بعض الدول العربية أم كرهت فإنها جميعًا أصبحت تتحدث، وربما تتشدق عن الديمقراطية، وحتى تلك التي لا تمارسها بالطريقة الغربية تحاول أن تجد لها صيغًا أخرى كالشورى وأن تلبس عباءة التحرر بإدخال المرأة في الحياة النيابية والحكومية وغيرهما مثل القضاء والشرطة، ومن مظاهر هذا التقليد اتخاذ طقوس الدولة القطرية المستقلة بكل فعالياتها كعزف النشيد الوطني، وفرش السجادة الحمراء، والتراحم على روح الجندي المجهول، وإيقاد النار عند نصبه، والإيماء بالتحية للعلم الوطني، وعزف الموسيقا العسكرية واللحن الجنائزي، وغيرها من الطقوس التي لم تعرفها ثقافتنا السياسية، على ما أعلم.
أما على مستوى التثاقف الفكري، فقد شهد عصرنا موجات من التأثير تمثلت في الحركات القومية والرومانتيكية والوجودية والسيرالية والاشتراكية والشيوعية. فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تسربت الفكرة القومية إلى حياتنا، فتحركت المشاعر بالهوية والانتماء إلى الأمة العربية والاعتزاز باللغة والتاريخ وتجاوبت أطراف الأمة مع بعضها لأنها من جسم واحد. ويرجع المؤرخون ظهور القومية في أوربا إلى الثورة الفرنسية وما حركته من إحساس مشترك بين أفراد الأمة الفرنسية أمام الخطر الخارجي، ثم ردود الفعل التي أيقظتها لدى شعوب أوربا، التي وجدت نفسها مغزوة بجيوش نابليون. ولم يكن رد الفعل في العالم الإسلامي بالوتيرة نفسها التي كانت في أوربا، ولكن رد الفعل ترك بصماته في البلقان التابع للدولة العثمانية، وفي مصر بعد ذلك، كما تمثل في كتابات حمدان خوجة صاحب كتاب (المرآة) المشار إليه (1833م)، الذي كان رغم ميوله العثمانية قد ملأ كتابه بأفكار قومية ووطنية في رده على الاستعمار الفرنسي للجزائر. وقد تسربت القومية إلى مصر في كتابات رفاعة الطهطاوي، وإلى الشام في عهد محمد علي، ثم إلى إسطانبول، وبدأت تأتي أُكلها في عهد الإصلاحات العثمانية، ونشاط الإرساليات الأجنبية، فظهرت النخبة في تونس ومصر بعد احتلالهما، كما ظهر المثقفون الأتراك الذين اضطهدهم السلطان عبد الحميد واحتضنهم الغرب، وبخاصة في فرنسا. وقد ساعدت الصحافة والأدب وحركة الإحياء اللغوي واكتشاف التاريخ المشترك على الترويج للقومية لدى الشعوب المنضوية تحت الحكم العثماني. ومنها الشعب العربي، وكان من نتاج ذلك كتابات عبد الرحمن الكواكبي، وظهور الحركات القومية السرية مثل (جمعية العربية الفتاة) و(الجمعية القحطانية) و(المنتدى العربي) وغيرها، وعقد المؤتمر العربي الأول بباريس سنة 1913م. وإذا كانت حركة الجامعة الإسلامية قد اتخذت مرجعيتها من السلفية فإن حركة القومية العربية كانت تستمد مرجعيتها من التجارب القومية للأمم الأوربية، مثل إيطاليا الفتاة والقومية السلافية والقومية اليونانية والبولندية، وهكذا ظهرت (مصر الفتاة) و(تونس الفتاة) و(الجزائر الفتاة) و(تركيا الفتاة). وقد غذى الاستعمار هذا الشعور القومي بلجوئه إلى الاضطهاد والتفرقة وكبت الحريات ورفض مبدأ تقرير المصير والاستقلال. ولم يبق أمام الشعب العربي سوى رفع شعار القومية رغم تناقضه أحيانًا مع عالمية الإسلام ووحدة الأمة الإسلامية.
وفي ميدان الأدب ظهرت الحركة الرومانتيكية مؤثرة في جيل من الأدباء والشعراء والفنانين. وكانت هذه الحركة قد بدأت في أوربا أيضًا،وبالخصوص ألمانيا، في أواخر القرن الثامن عشر، ثم انتقلت إلى فرنسا وغيرها. وأثرت الرومانتيكية في مختلف الميادين عندهم حتى شملت السياسة والمجتمع والمسرح والتاريخ والأدب. ولكنها عندنا لم تؤثر بشكل واضح في غير الشعر والأدب والفن، ولاسيما الشعر والموسيقا، وقد وصلتنا متأخرة أيضًا، كما وصلتنا القومية متأخرة. فتاريخ تأثير الحركة الرومانتيكية لا يرجع إلى أبعد من نهاية الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك كان لها أتباعها في الوطن العربي، مشرقًا ومغربًا، ففي المشرق ظهرت (جماعة أبوللو) بزعامة أحمد زكي أبو شادي، وانتشرت بين أدباء المهجر، وأدباء لبنان على التحديد، وفي تونس برز أبو القاسم الشابي، ورغم أن خصائص الحركة الرومانتيكية وعوامل ظهورها تختلف في عمقها عن الروح العربية إلى حد كبير فإنها وجدت أرضًا خصبة لدى جيل ما بين الحربين العالميتين. وكان الإحباط والقلق والحزن وحب الطبيعة قد وجه هذا الجيل إلى الحركة الرومانتيكية التي وجد فيها ضالته في البحث عن المجهول والخير والجمال. وبذلك حصل نوع آخر من التثاقف لا يقل أهمية عن التثاقف السياسي والاقتصادي والتربوي، إذ كلها تهدف إلى تكوين الإنسان المعاصر في قلب جديد.
وعاصرت الرومانتيكية حركات فكرية وأدبية وفنية أخرى. منها السريالية التي سادت فترة قصيرة بعد الحرب العالمية الأولى في أوربا نتيجة الخسائر البشرية المروعة التي أصابت الإنسان وخيبت أمله في الحضارة الغربية التي تغنى بها الساسة والاقتصاديون والعسكريون وفلاسفة التفوق العنصري، فإذا هي نكبة على من صنعها. وقد جسد ذلك الشعور المنهار أزولد شبنجلر في كتابه (سقوط الحضارة) وإلى حد كبير أرنولد طويني في كتابه (دراسات في التاريخ). إن السريالية، ومعاصرتها الوجودية قد أثرتا أيضًا على العقل والعاطفة العربية. ونحن نجد ذلك في مدرسة بيكاسو الفنية التي كان لها معجبون في بعض البلاد العربية، ومدرسة جان بول سارتر التي أسهمت في تقديمها للقارئ العربي منذ الخمسينيات من القرن العشرين مجلة (الآداب) البيروتية التي ترجمت معظم أعمال سارتر وكامو وكير كجارد، بالإضافة إلى المدرسة العدمية التي راجت في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي بقيت على تأثيرها عند البير كامو، وهو فرنسي من مواليد الجزائر، وكان له قراؤه في البلاد العربية عند الجيل الذي ذكرناه.
ويجب أن نشير هنا إلى تيارين آخرين كان لهما تأثيرهما على بعض مفكري العرب وهما: مدرسة شارل داروين أو مدرسة النشوء والارتقاء كما سميت في وقتها، ثم مدرسة سيقموند فرويد التي كان لها تأثيرها في الأدب وعلم النفس والتربية والعلاقات الاجتماعية. فقد ركزت الأولى على الطبيعة والخلق والخالق، ومبدأ التقدم نحو الأفضل، ونظرية البقاء للأصلح والأقوى التي روجها الفيلسوف نيتشة وغيره. أما مدرسة فرويد فقد خاطبت المشاعر البشرية والجوانب الخفية من الشخصية الإنسانية التي لا تظهر إلا في الأحلام. حقيقة أننا لا نجد إنتاجًا غزيرًا لهاتين المدرستين في مناهجنا وآدابنا، كما نجده مثلاً في إنتاجنا القومي، ولكن الثقافة العربية المعاصرة لم تكن بمعزل عن هذه المدرسة التي غزتنا عن طريق الترجمة والبعثات العلمية والدراسية، والأساتذة الوافدين.
وآخر ما نرغب في الإشارة إليه في ورقتنا هذه هو التثاقف الأيديولوجي، ونعني به تأثر الفكر العربي المعاصر بالاشتراكية وحتى الشيوعية. إن علاقة الاشتراكية بالصراع الطبقي وعلاقة هذا الصراع بالطبقات المحرومة أو العاملة لدى الرأسمالية المتوحشة، قد فجرت المجتمع الأوربي من داخله ابتداء من الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ولا تعنينا هنا مسيرة الاشتراكية في أوربا وعلاقتها برأس المال والاحتكار والثروات والنظام الطبقي، ولكن يعنينا تأثر شريحة منا بها. ويمكن القول إن القمع الاستعماري هو الذي جعل بعض الشعوب العربية كالجزائر، تربط حركتها الوطنية مبكرًا بالمنظمات الاشتراكية (اليسارية). وإذا كانت البلاد العربية المشرقية لم تتأثر بالاشتراكية إلا في وقت متأخر نسبيًّا؛ لأنها إما كانت بلادًا مغلقة على نفسها، وإما كانت جزءًا من الدولة العثمانية، وإما كانت تحت الانتداب الجديد الذي لم يسبق له التعامل مع الثقافة الغربية، بينما كانت شعوب المغرب العربي غير الجزائر خارج دورة التأثير الإيديولوجي الأوربي، باستثناء تونس التي كانت محمية بتقاليد جامع الزيتونة إلى حد كبير، أما الجزائر فقد كان الاستعمار المباشر ووجود الاستيطان وامتداد الحزب الاشتراكي والشيوعي الفرنسيين إليها، كل ذلك سهل الطريق أمام رواج الاشتراكية والشيوعية حتى أن الأمير خالد صاحب أول مبادرة وطنية حديثة ألجأه القمع إلى الاحتماء بالأحزاب اليسارية الأوربية، وخاصة الفرنسية منها، وكان ميلاد أول حزب (نجم الشمال الإفريقي) في أحضان الحزب الشيوعي الفرنسي. ولكن هذا لا يعني أن الاشتراكية والشيوعية لم تجد لها موقعها في البلاد العربية بين الحربين. والواقع أن عددًا من الأحزاب والجرائد والقيادات جعلت من الاشتراكية شعارًا لها. وقد شهد عقدا الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين حدوث ثورات وانقلابات عسكرية قامت تحت شعار الاشتراكية، وهي تعني عندهم العدالة والمساواة. وذهب بعضهم إلى تسميتها بالاشتراكية العلمية حرصًا منهم على الوفاء للمعنى الحقيقي لها، وتمييزًا لها عن الاشتراكية الطوبائية (المثالية) أو السان سيمونيه. وقد انقسم العالم العربي عندئذٍ إلى من يطبق النظم التقليدية، بما فيها الرأسمالية الإسلامية، وإلى من يطبق النظم الاشتراكية، بما فيها الاشتراكية العربية. وهكذا سادت نظم عندنا تتخذ لها من الاتحاد السوفييتي نموذجًا في دوائر السلطة من حزب وحيد وأمين عام له ومنظمات تابعة للحزب، وبرلمان واحد من اختيار الحزب، وصياغة دساتير على غرار الدساتير السائدة في الدول الاشتراكية. وقد ترتب على ذلك تدخل الدولة في كل الأمور وعلى رأسها الاقتصاد والأرض والثروات الطبيعية والعلاج والتعليم والثقافة، ورغم أن بعض النظم العربية قد سمحت للأحزاب الشيوعية بالظهور فإن نظمًا أخرى لم تكن في حاجة إلى ذلك؛ لأنها هي نفسها تبنت الأطروحات الشيوعية، وبذلك أصبحت الأحزاب الشيوعية قوة مساندة للنظم الاشتراكية التي تتكامل معها، وحصل التثاقف الإيديولوجي لدى القيادات، بل إن بعض هذه القيادات أصبحت عضوة في تنظيمات دولية مماثلة، مما جعل عالمية النظام الاشتراكي والشيوعي أمرًا واقعًا بدل قومية العروبة وعالمية الإسلام.
وتخلص هذه الورقة إلى استنتاجات ليست بالضرورة محل اتفاق الجميع:
أن التثاقف السياسي والفكري قد نجح في البلاد العربية، أسوة بمعظم بلدان العالم، وبذلك انفتح الطريق أمام العولمة الثقافية التي يجب أن تتعامل معها الثقافة العربية بكل جدية.
أن التحفظ من التأثر بالآخر قد ضعف، حتى لقد ظهر من يقول إن تركة الاستعمار بما فيها اللغة هي غنيمة حرب.
أن الثقافة الأصيلة هي القادرة على التثاقف أي على تبادل التأثر والتأثير مع الثقافات الأخرى، وهي التي تقبل التحديث حسب نظرية طوينبي المعروفة.
أن المد القومي قد أخذ في العقود الأخيرة في الانحسار أمام التيار الإسلامي، والمد العلماني، والاحتواء العولمي.
أن الثقافة العربية أثبتت قدرتها منذ الفتوحات الإسلامية وانتشار اللغة العربية معها على التعاطي مع الثقافات الأخرى بإيجابية، ومن ثمة فهي لا تعاني من أزمة الخوف من التخلف الذي أصابها؛ لأنها على ثقة بقدرتها على التجدد والتطور رغم أنها في عصرنا أصبحت متأثرة أكثر ما هي مؤثرة.




أن على أبناء الثقافة العربية اليوم أن يعوا دورهم بحيث لا يقعون في فخ الاندهاش والانبهار أمام الآخر، وعليهم أن يواجهوا بالاستجابة الواعية والإسهام المبدع ولكن بثقافتهم الحية ولغتهم المتجددة.
أبو القاسم سعد الله
عضو المجمع المراسل من الجزائر

No comments:

Counter