Wednesday, November 5, 2008

رواية شيكاجو


قراءة: محمد محمد السنباطي
على صفحات جريدة الإتحاد ، يقول علاء الأسواني عن روايته شيكاجو ، إنها كمشروع روائي فكر فيه أثناء إقامته للدراسة لعدة سنوات بهذه المدينة. إنها كما يقول، بوتقة انصهار لمختلف الثقافات، وقد جاءته الفكرة منذ وطئت قدماه أرض المدينة فأدرجها ضمن مشروعاته الروائية المستقبلية. يخبرنا الأسواني أنه في اليوم الأول لوصوله إلى شيكاجو وضع حقائبه في غرفة بالمدينة الجامعية. فتح النافذة فإذا به يجد بعض الأشخاص يلتفون حول القمامة وينتقون منهال ما يأكلونه. اندهش وقال: نحن في أمريكا وليس في إمبابة! كان هؤلاء الأشخاص يلتقطون الأكل من القمامة بطريقة تحفظ أيديهم من التلوث؛ حيث يستخدمون عصا تنتهي بنصل حديدي أشبه بالمسمار. هنا التقط الأسواني خيط الرواية . ونشرع نحن الآن في قراءتها فإذا بالمؤلف يلفت نظرنا إلى أن "الصفحات والفقرات المطبوعة بالحرف الأسود المائل هي،طبق الأصل، مذكرات ناجي عبد الصمد التي كتبها أثناء الرحلة"، وبهذ يضعنا منذ البداية، أمام لغز يبحث عن حل: إن كان ناجي هذا شخصية حقيقية فمن هو؟ ، وإن كان حيلة أدبية لتغيير ضمير السرد من الغائب إلى الحاضر، أو من الشخص الثالث إلى الأول فلماذا التنويه المذكور إذن؟!.. لكننا لن نتوقف كثيرا هنا . على ساحل الرواية تنغرس راية مكتوب عليها تاريخ شيكاجو في سطور، بدءا من الكلمة ذاتها التي تنتمي إلى إحدى لغات الهنود الحمر، ثم ينفتح المشهد بعد المشهد على المستعمرين المتدافعين على المكان في حروب إبادة لملايين الهنود الذين – قيل- لم يكونوا من البشر وإنما مخلوقات أخرى بلا روح ولا ضمير. ثم حدث الحريق الكبير الذي ضرب المدينة كما الجحيم، ثم الفوضى الشاملة ، وبروز العصابات من الأوغاد واللصوص، لكن المدينة ولدت من جديد، وتطهرت بالنار المقدسة التي خلصتها من عناصرها الرديئة، وكأنما شيء في ضمير الكاتب يريد أن يوحي أن طائر الفينيق يمكن أن يوجد رمزه في كل مكان يستحقه، ومرت عشرات السنين وذكرى الحريق باقية- يقول الأسواني- "من أين لشيماء محمدي أن تعرف كل هذا التاريخ وقد قضت حياتها كلها في طنطا؟" . شيماء إذن هي الشخصية الأولى في صلب الرواية ، والتي يقدمها لنا الكاتب راسما ملامحها(بثوبها الشرعي الفضفاض والخمار الذي يغطي صدرها). كانت من أبرز المتفوقين في كلية طب طنطا، جاءت في بعثة إلى جامعة إلينوي بشيكاجو فاستُقبلت- نظرا لهيئتها- "بعدوانية في المطار "، ولكن شيماء صممت على البقاء، وأصرت على المواصلة، وهاهي في الحمام"بدأت بصنع الخلطة الشهيرة من السكر والليمون على النار لتنزع الشعر من الجلد جزءا جزءا حتى شعرت بانتعاش وتحرر"، وهاهي تتمتع بأغاني كاظم الساهر التي تحب سماعها ، وهاهي "تطش قرون الفلفل واحدا بعد الآخر في الزيت المغلي" "ألقت هذه المرة بقرنين من الفلفل دفعة واحدة، فأحدث سقوطهما في الزيت دويا هائلا، وأطلق دخانا كثيفا" مما جعل البوليس يعتقد أن حريقا اندلع في الشقة فاقتحموها.الفصل الأول من الرواية إذن تحدث عن حريقين: أحدهما ضخم كبير هائل، راح ضحيته موتى وجرحى بلا عدد، وحريق آخر- ليس حريقا- نتج عن قرون فلفل تلقى في الزيت ، وكأن بوليس شيكاجو الذي ذاق قديما لسعة الشوربة ، جاء الآن لينفخ في الزبادي ..هذه المبعوثة الجديدة، ذات الموروث الريفي والثقافة المتشددة، ستقع في حب طارق حسيب الذي يعيش "مثل عقرب الساعة، وحيدا نظيفا منضبطا متوترا. ومندفعا إلى الأمام بإيقاع ثابت لا يتغير" . كانت شيماء على وشك الاستسلام للإحباط، وقررت العودة إلى مصر، لكنه ذكرها أنها ستحصل على الدكتوراه من جامعة إلينوي، وأن كل زملائها في طنطا يحسدونها على ذلك."كان والده ضابط شرطة ترقى حتى وصل قبل رفاقه إلى منصب مساعد مدير أمن القاهرة" "كان يضربه بشدة إذا أخطأ" ..وفي تحليل نفسي رائع- كأننا نقرأ لدستويفسكي- يشهدنا علاء الأسواني أسرار القلب لدى طارق وشيماء حيث صارت كأنها قطعة من جسده لكنه يستبعد فكرة الزواج منها، وقالت له: "هذا قليل من كثير سأفعله من أجلك عندما نتزوج" ، وعندما اكتشفت أنه –حتى الآن- لم يقل لها :أحبك، ولا مرة واحدة استدرجته إلى البوح بذلك ولم تفلح فغادرته حانقة عليه "وأخذ يتابعها بنظره حتى اختفت في الزحام.ثم بعد الصلح لم تكن تسمح له أن يلمسها، لكن العلاقة بينهما تطورت في الفصل(23) "بعد لحظات من العناق الحار مد يده وفتح السوستة التي تتوسط العباءة فأحدثت أزيزا خاطفا.. لم تعترض شيماء وراحت ترقب يديه وكأنها منومة . انكشف صدرها رابضا في مشد قطني وردي اللون..ضغط على الثديين فأبرزهما وكأنهما ثمرتان ناضجتان تدلتا من فوق الغصن..شهق طارق (...)أغرق ثدييها بالقبلات وعضهما برفق، فأطلقت صرخة خافتة متألمة ومائعة، فتأكد له عندئذ أن جسدها صار ملك يديه" جعلته يقسم على المصحف الشريف أنه سيكتب الكتاب فور وصولهما إلى مصر.. ثم.. بعد أن حملت منه ما الذي حدث؟ يمكنكم تخيل فرضياته ، أو قراءته في الرواية ، لكني ألفت نظر القارئ إلى مدى نعومة الانزلاق حتى السقوط ، وبراعة الكاتب ومقدرته الفذة على السرد والتحليل ورسم أغوار النفس البشرية .الرواية مجموعة من القصص المتوازية وإن كانت لا تفتقد رابطها. ودائما ما يحدث القطع بما يجعل القارئ مشدودا ومتشوقا . لكنا نترك شيماء في مأساتها مع طارق لننتقل إلى عالم آخر مختلف تماما .. د.رأفت ثابت، ذلك المصري الذي تبرأ من المصريين؛ فهم عنده "لا يصلحون للعمل في أماكن محترمة لأن عيوبهم كثيرة وفادحة:الجبن والنفاق، الكذب والمراوغة والكسل، عدم القدرة على التفكير المنظم، وأسوأ من كل ذلك: العشوائية والفهلوة.." .."استقر في شيكاجو منذ 30 عاما وتزوج من الممرضة متشيل وحصل على الجنسية الأمريكية وصار أمريكيا في كل شيء" .أنجبا ابنتهما سارة، تلك التي صارت شابة ولها صديق رسام لا يحب رأفت لوحاته الحداثبة، ولا يرتاح للعلاقة التي تربط ابنته بهذا الشاب، وبمجرد أن قال رأيه في لوحاته انزعجت ابنته سارة و..."لن أسامحك أبدا لأنك أهنت صديقي".. وبعد فترة قررت ترك منزل والديها، واعتقد الوالد أن زوجته متشيل لم تعد تحبه وأنها أرادت أن تنتقم منه في سارة حتى جعلته يفقدها. وفي أحد الأيام قرر رأفت ثابت أن يرى ابنته، ووصل إليها بعد أن تعرض لقاطع طريق "توقف والتفت حوله، وشيئا فشيئا بدأ يميز جسما ضخما يقترب في الظلام".اكتفى ذلك "الجسم" بأن طلب منه خمسين دولارا ليشتري أعشابا يملأ بها دماغه!...ووصل إلى الشقة التي تقيم فيها ابنته. "سيطرت عليه رغبة غريبة، فتسلل بخطوات حذرة حتى وصل إلى النافذة" ورأى ما هاله!! ، ابنته وصديقها بين العهر والإدمان، مما دفعه إلى التهور بمصريةٍ قحة، "وعلا صوته كالرعد وهو يقتحم البيت: يا مدمنة، يا عاهرة، سأقتلك!" كانت تلك نهاية الفصل (17) لكنا نقرأ في الفصل(24) "أما أنت أيها المدمن القذر..فسوف أضعك الليلة في السجن".وتمضي الأحداث ويتغلب صوت الحكمة. أخذ زوجته متشيل في سيارته بعد أن تزودا بنصائح الإخصائية النفسية، ولكن الشقة لم يعد يسكنها جيف ولا سارة، لقد رحلا . وفي الفصل(33) "أين اختفت سارة؟ بحث عنها في كل مكان بلا جدوى، لكنه وهو بين النوم واليقظة يراها عنده في بيته كانت تقلب محتويات الدولاب بحثا عن نقود تقول إنها تركتها هنا. وقالت له: "كف عن ابتزازي بعواطفك التي أفسدت حياتي" بل قالت له: "كفاك أكاذيب..لقد تسببت في شقائي". وطلبت منه مبلغا تافها على سبيل القرض، ولم تعطه عنوانها الجديد، لكنها تطلعت إليه بابتسامة باهتة، ثم طبعت على خده قبلة سريعة وهرعت إلى الخارج"وتظل كلماتها الجارحة في أذنه مقارنة بينه وصديقها: "لا تشتمه.. إنه أفضل منك.. هو فقير وعاطل لكنه صادق.. إنه يحبني وأحبه لسنا مزيفين مثلكما".
ونتأمل سويا بعد ذلك شخصية د.أحمد دنانه ، حيث يرسمها المؤلف بمهارة وحرفية رائعتين مع السخرية الكامنة: "ملامحه مصرية ريفية، وزبيبة الصلاة المثلثة تتوسط جبهته، شعره مجعد يغزوه المشيب، رأسه ضخم ونظارته سميكة مستديرة من طراز"كعب كوباية"، زجاجها يميل إلى الزرقة قليلا يعكس نظرات عينيه الماكرتين في دوائر متداخلة كثيرا ما تربك محدثه.. المسبحة لا تفارق يده، وبدلته الكاملة صيفا وشتاء صنع المحلة، يستحضرها من مصر مع خراطيش سجائر الكليوباترا السوبر تقليلا للنفقات، يمشي دنانة في شوارع شيكاجو بنفس الطريقة التي كان يتريض بها ساعة العصاري على السكة الزراعية في قرية الشهدا بمحافظة المنوفية، موطنه الأصلي.. يتحرك بتؤدة مهما يكن على عجل، يتلفت حوله بنظرة تتراوح بين الاستعلاء والاسترابة، يقذف واثقا بقدمه اليمنى إلى الأمام ثم يتبعها باليسرى ويشد ظهره، فيتدلى كرشه الضخم الناتج عن ولعه بالعشاء الدسم كل ليلة"
دنانة هذا رئيس اتحاد الدارسين المصريين في أمريكا. يحرص الأسواني لتكتمل الصورة أن يخبرنا " أن دنانة هو الوحيد الذي فاز برئاسة الاتحاد لثلاث فترات متتالية، بالتزكية، وهو إلى ذلك يتمتع باستثناءات عدة..."وكأن دنانة قد نقل الفساد معه إلى أمريكا " فهو يعد للدكتوراه منذ 7 سنوات" وهذا مخالف ، "استطاع الحصول على وظيفة بالرغم من أن "القانون يمنع المبعوثين المصريين من العمل في أمريكا، ووظيفته تلك تدر عليه أموالا يحولها إلى حساب خاص في البنك الأهلي(لا يعرف بأمره مخلوق سواه) أرأيتم؟ ولم لا ؟ مادام "يكفي تقرير واحد منه...حتى يصدر القرار من القاهرة بإنهاء بعثة الطالب المذنب". وعندما كان في مصر تقدم لخطبة مروة نوفل ، ابنة تاجر الأدوات الصحية بالرويعي، الثري الذي لم يتردد في قبول د. دنانة فهو "عضو بارز في أمانة الشباب بالحزب الحاكم ولديه علاقات مهمة، وأثناء الإجازة بالقاهرة يلتقي يوميا كبار رجال الدولة". أما مروة فتنازلت عن حلمها في عريس مثالي وهي تكاد تحتضن الثلاثين ربيعا ،"وتم الزفاف في حفل أسطوري كلف الحاج نوفل ربع مليون جنيه"، لكن الهوة بين دنانة ومروة كانت أوسع من أن تردم بسهولة: بدأت الخلافات ببدلة الزفاف البيضاء الأنيقة من تصميم فرساتشي ، والتي اعتبرها هو، معونة أمريكية ، حيث إنه احتفظ بفاتورتها وأرجعها بعد الزفاف واستعاد ثمنها !. بعد ذلك صارحها برغبته في الاقتراض من والدها فوافقت على مضض ، لكنها علمت أنه يتقاضى مرتبات إضافية لم يكن أخبرها بها فازداد قلقها . لقد ظهر تماما أمامها بوجهه المخادع ، وبخله الشديد ؛ حيث يخفي عنها مرتبه الإضافي ، وحيث يركبه الجزع عندما يحصي نقوده ، ثم إنه يأتيها كالعمل الرضيّ ، بطريقة مقززة ، وتراكم نفورها منه حتى طلبت الطلاق ، وتطورت الأمور بسرعة فضربها! . ورغم ذلك أصر والدا مروة على عدم الطلاق حتى عادت المياه إلى مجاريها لكن الرجل عندما كان يداهمها منتصبا دون سابق إنذار و "عندما تحس بكرشه الثقيل يضغط على بطنها---- تعلمت مروة أن تغمض عينيها ". صارت تتصور أن شخصا آخر هو الذي يعانقها . وهاهو دنانة يقع في مشكلة تتعلق بالبحث العلمي حيث قدم نتائج قوية ومنطقية لكنها مزيفة . "وفجأة.. قذف الدكتور بيكر بالشرائح على الأرض فانكسرت وتناثرت شظاياها.. ثم زأر بصوت غاضب مجلجل --- يالك من وغد!--- سألغي رسالتك وأفصلك من القسم فورا". ويفسر دنانة ذلك لزوجته مدعيا أن الدكتور بيكر معروف بتعصبه ضد المسلمين! "أفحمته فانتقم مني! "وأخبرها أن صفوت بك وعده بتسوية الأمر مع البعثات ، وسيلحقه بجامعة أخرى ، وقال لها إن صفوت بك يريدها أن تعمل معه! .


مازلنا عند شخصية د. أحمد دنانة ، تلك الشخصية التي أفلح أديبنا الكبير في رسم ملامحها وأفاض . ذلك الرجل الذي يتظاهر بتمسكه التام بالإسلام ، وباتباع السنة الشريفة ، ودائما يقول قال الله وقال الرسول ، والزبيبة في جبهته ، ويحرص على أكل اللحوم المذبوحة شرعا ، ويتقصى ذلك غاية التقصي، لكنه فيما عدا المظاهر الخادعة لا وازع أخلاقيا له ولا ضمير ؛ هاهي حقيقته تنكشف أمام الدكتور بيكر ، وعندها "ساد سكون عميق مشحون بطاقة غامضة حتى إن الأزيز الخافت الصادر عن ثلاجة المعمل بدا وكأنه صوت القدر --- ثم زأر بصوت غاضب مجلجل لم يسمعه منه أحد من قبل: يا لك من وغد! النتائج التي قدمتها مغشوشة. أنت شخص بلا شرف.. سألغي رسالتك وأفصلك من القسم فورا". إلتجأ إلى أسياده في أمن الدولة ، وأخذ يتذلل لصفوت شاكر ويركع تحت قدميه حتى قال له صفوت: "سأساعدك ليس من أجلك ولكن من أجل زوجتك المنكوبة بك!" . وكان دنانة يعرف أن الثمن شرفه وشرف امرأته ، وقد أنهى الأسواني الفصل 25 هكذا: "لكنه قبل أن يبلغ الباب جاءه صوت صفوت وقد اكتسب إيقاعا مختلفا: - على قكرة.. لي طلب عندك.
- تحت أمرك.. رقبتي يا فندم.
سيرجع د. دنانة إلى زوجته يحتال عليها مدعيا أن الدكتور بيكر معروف بتعصبه ضد المسلمين! "أفحمته فانتقم مني" ، وهكذا هيأها ليطلب منها المساعدة.

تمضي بنا الرواية حتى تطالعنا الحروف السوداء المائلة التي هي ،طبق الأصل، مذكرات ناجي عبد الصمد0 في الفقرة الأولى من المذكرات نطالع هذه الصدمة الحضارية:"يقاتل الجندي أعداءه بضراوة، يتمنى لو يفنيهم جميعا..لكنه إذا قدر له، مرة واحدة، أن يعبر إلى الجانب الآخر ويتجول في صفوفهم، سيجدهم بشرا طيبين مثله، سيرى أحدهم يكتب خطابا لزوجته، وآخر يتأمل صور أطفاله. وثالثا يحلق ذقنه ويدندن.. كيف يفكر الجندي حينئذ؟.. ربما يعتقد أنه كان مخدوعا عندما حارب هؤلاء الناس الطيبين وعليه أن يغير موقفه منهم.. أو.. ربما يفكر أن ما يراه مجرد مظهر خادع، وأن هؤلاء الوادعين إن يتخذوا مواقعهم ويشهروا أسلحتهم حتى يتحولوا إلى مجرمين، يقتلون أهله ويسعون إلى إذلال بلاده.. ما أشبهني بذلك الجندي.."
وبعد أن استقر ناجي في شقة 407 الدور الرابع، وماجت به الشهوة، اتصل وطلب:"أريد سيدة جميلة لتقوم بتدليكي" ولكن الموظفة التي ردت عليه، وقد رأت أنه استكثر المبلغ المطلوب ، وعدته أن تأتي بنفسها إليه(من الباطن) مقابل مبلغ أقل من ذلك فوافق . وفي الفصل السادس من الرواية يفتح صاحبنا الباب منتشيا بالخمر والرغبة فيرى ما لا يسره:"سوداء بدينة تعاني من حول ظاهر في عينها اليسرى.. كانت ترتدي فستانا أزرق قديما مهترئا عند الكوع وضيقا يبرز ثنايا جسدها المكتنزة بالشحم.. "
وهاهي تسأله إن كان عنده طعام فهي جائعة. "كانت رائحتها خليطا من عرق منتن وعطر رديء عطن". وعندما رفضها متقززا ، وقال لها اخرجي...نقرأ:"أنت لا تعرف كم أحتاج إلى هذا المال.. أنا أطعم ثلاثة أطفال من عملي هذا"."أبوهم هرب مع امرأة تصغره بعشرين عاما وتركني معهم .. ليست لي حقوق قانونية لأننا لم نكن متزوجين". وها هي تتذلل إليه:" هل يمكن أن تدفع لي نصف المبلغ ---- ادفع لي نصف المبلغ.. أرجوك.. أنا فعلا أحتاج المال . لقد ضاعت الليلة فلن أجد زبونا آخر". وينتهي الفصل (6) هكذا:"رحت أرقبها في صمت حتى خرجت وأغلقت الباب" لكن العجيب أن الفصل التالي هو (8)، ومن المؤكد أن ذلك خطأ في الترقيم0
في القسم الثاني من الفصل (9) نعود إلى المذكرات حيث التقى ناجي بدنانة المعروف بأنه "عميل لمباحث أمن الدولة" . طلب دنانة أن يبعث باسم المبعوثين "برقية لسيادة الرئيس نجدد فيها البيعة ونعبر فيها عن سعادتنا بزيارته الكريمة. لم يوافق ناجي، وقال عندما أعجب أحدهم بحماسه:"هل تريدني أن أوقع على وثيقة مبايعة مثل المنافقين في الحزب الوطني؟!". وفي الفصل(18) يدخل ناجي في علاقة عشق مع فتاة مارس معها الجنس وشغف بها، لكنها وهي تغادره باحت له بكونها يهودية، وقالت له: "فكر في علاقتنا جيدا.. تستطيع أن تتصل بي في أي وقت.. وإذا لم تتصل فأنا أشكرك على الوقت الرائع الذي قضيته معك!".
ثم تظهر مذكرات ناجي عبد الصمد بعد ذلك في الفصل(22)، وها هما معا حيث "أعدت ويندي العشاء وأطفأت الأنوار، ثم أشعلت شمعتين في شمعدان جلبته معها.. رحنا نأكل في جو ساحر.. قالت: هذا حساء الدجاج على الطريقة اليهودية.. هل يعجبك؟/ - لذيذ جدا". ويدور حوار حول العرب واليهود، ومن خلال حديث ناجي يحاول أن يبسط أمامها الحقائق:"هذا غير صحيح.. العرب يكرهون إسرائيل ليس لأنها دولة اليهود، ولكن لأنها اغتصبت فلسطين وارتكبت عشرات المذابح ضد الفلسطينيين. وأخيرا كاد يقنعها:" وهكذا يا عزيزتي.. تعرض أجدادي وأجدادك إلى الاضطهاد معا.. ممكن جدا أن نكون، أنا وأنت، حفيدين لرجل مسلم وامرأة يهودية تحابا في الأندلس".

وها نحن أولاء مع صلاح الذي تزوج من أمريكية ليكون أستاذ الجامعة المهاجر الناجح، وعاشا معا ردحا من الزمن، لكنه الآن يفكر في تطليقها، وهاهي في لذتها المبتكرة مع الأرنب جاك المعدل، ذلك الجهاز الذي أوصلها إلى اللذة الوحشية الضارية."لذة صرفة خبيثة حارقة، ظلت تضربها بقسوة كأنها سوط أو صاعقة حتى قذفت بها في النهاية إلى نشوة جبارة زلزلتها في موجات متتابعة ثم تركتها وقد أنهكتها البهجة". إن كان زوجها قد استغنى عنها فهاهي الآن في غنى عنه. وها هو صلاح يقع أسير حبه العتيق لزينب التي انبعثت من أغوار النسيان السحيقة لكي تزلزله من جديد فيظل يبحث عن رقم تليفونها القديم حتى تمكن بعد جهد جهيد من محادثتها بعد كل تلك السنين."صباح النور. أنا صلاح يا زينب(...) ثلاثون عاما عشتها ضائعا بعيدا عنكِ..حاولت وفشلت يا زينب، وها أنا أعود إليكِ"، وكان من ردها عليه:"أنا عملت في الحكومة المصرية يا صلاح..عملنا هنا يتلخص في الحضور إلى العمل". وأيضا:"مصر في أسوأ أحوالها يا صلاح.كأن كل ما ناضلنا من أجله أنا وزملائي كان سرابا". وهاهو يخبرها أنه تزوج وطلق وأنْ ليس له أولاد. وها هما يجتران الذكريات القديمة حيث كانت هي قد تخلت عنه لأنه في نظرها جبان. ويبرع الأسواني البراعة كلها في تأكيد هذه الصفة وإبراز تأصلها في شخصية الدكتور صلاح الذي سيصر على أن يقوم بمهمة يثبت فيها أنه لم يعد ذلك الرعديد القديم، لكنه سيفشل تماما وتتهاوى عزائمه.


هل استطعت أن أقدم ملخصا لمتشوق لم تتح له الفرصة لقراءة الرواية؟ آمل ذلك. لقد كنت في الحقيقة أقرأ وأتمنى للصفحات ألا تنتهي ، وفي النهاية أسمح لنفسي بتقديم بعض الملحوظات العامة المتواضعة على الرواية:
1- علاد الأسواني يختار لروايته هذه أرضا غير الأرض التي احتوت عمارة يعقوبيان، أرضا أخرى بعيدة تحتوي قسما من جامعة إلينوي.. إنه ينقل أبطاله ليصوروا "الفيلم" في مكان آخر وحضارة أخرى!، لكنهم مليئون بأوجاعهم التي جلبوها معهم، مثقلون بماضيهم أو بحاضرهم، مشغولون بوطنهم الذي ينوء بالفساد. بل إن الفساد يلاحقهم ويلاحقونه.
2- اختار الأسواني الأسلوب المحبب لجماهير القراء، مبتعدا عن الغموض والإلغاز؛ فالسرد عنده ناصع وواضح ومشوق ، يجذب القارئ ويوقفه عند نقطة مثيرة وعندها "يدرك شهرزاد الصباح فتسكت عن الكلام المباح"ليدخل السرد في حكاية أخرى ، بينما الأحداث غير المكتملة بعد تظل في وجدانه تحرقه نارها حتى يأتي على بقية التفاصيل!. وهذا الأسلوب السينمائي ، وإن تجاوزته الرواية الحديثة بمراحل إلا أن جمهوره مازال عريضا.
3- في الرواية مناقشات لقضايا دينية وسياسية كتبها الأسواني وعينه على القراء الذين يثق أن روايته ستترجم إلى لغاتهم وكأنما الكاتب هنا يؤدي رسالة للتعريف بالإسلام الواعي الخلاق، وليس المذهب الذي يحرم الخروج على الحاكم المسلم حتى ولو ظلم الناس . التعريف بأن الكره ليس لليهود وإنما للمحتلين أرضنا ، كل مشاكل العالم الثالث سببها فساد الحكام ، كيف جعل الحادي عشر من سبتمبر من أمريكا عقلية أخرى تقترب من الفساد ، الحرية الجنسية ، حقوق الإنسان، ...الخ.ولا غرابة إذن أن نقرأ ما كتبه جلال أمين على الغلاف الخارجي الخلفي للرواية: " إذ لا جدوى في رأيي من رواية مهما كانت درجة تشويقها وإتقانها إذا لم تكن نبيلة المقصد" ، . إن نبل المقصد هدف في حد ذاته هنا .
4- لاحظت خلو الرواية من الأخطاء اللغوية اللهم إلا في النادر الذي لا يكاد يذكر مثل(ص320): "نحن الموقعون أدناه، المصريون المقيمون في مدينة شيكاجو بالولايات المتحدة، نشعر..." كما لاحظت أن الفصل 8 كان يجب أن يكون7،9 كان يجب أن يكون8 وهكذا.. أي أن رقم7 سقط سهوا من الطبعة الخامسة على الأقل، وهي التي أقرأها الآن.
5- لاحظت أن هذه الرواية لن تحظى بالتحول إلى فيلم مصري، أو إلى مسلسلة مصرية في هذا العهد وإلا فإن الرقابة ستشوهها.
6- بعد النجاح الساحق الذي نالته الروايتان الأسوانيتان يقع عبء كبير على الكاتب إن أراد-وهو لا شك يريد- أن يظل على هذا الجذب للقراء والمتابعين ومقدمي الجوائز، فضلا عن الدارسين. لا أملك في النهاية إلا أن أتمنى له المزيد من الإبداع ومن الفوز ومن يدري فربما يأتي لمصر بنوبل أدبية أخرى بعد روايتين أخريين أو ثلاث؟!.

No comments:

Counter